حجية الأدلة الرقمية في مجال الإثبات../القاضي عبدالله اندگجلي

تانيد ميديا: يمكن تعريف الإثبات في المجال الجنائي بأنه إقامة الدليل علي وقوع جريمة بعينها ونسبتها لشخص معين أوعدة أشخاص وتقديمها أمام القضاء وفق الإجراءات المحددة قانونا .

فالدليل أيا كان نوعه وطبيعته يعد مناط الاثبات وجوهره ، يتطور بتطور الجريمة وظروف ووسائل إرتكابها فيتحدد نوعه وطبيعنه تبعا لذلك بحيث لم يعد في العصر الحديث يقتصر علي ماكان معروفا في مجال الإثبات من أدلة تقليدية مادية وإنما تجاوز ذلك الي ما بات يعرف بالأدلة الرقمية التي تستمد حجيتها في الاثبات من خلال ماتتمتع به من قوة في الاستدلال علي وقائع معينة ونفي أو إثبات إرتكاب شخص أوعدة أشخاص لتلك الافعال الموصوفة بأنها جرائم.

هذا وقد اختلفت أنظمة الاثبات في تقديرما للأدلة الرقمية من حجية في الاثبات بسبب ماطبع تلك الانظمة من تباين وأختلاف في موقف كل منها مما تتمتع به تلك الادلة من قيمة و قوة في الإستدلال وما تم منحه للقاضي الجنائي من سلطة في تقييم الادلة أيا كان نوعها.

فحسب ماكشفت عنه الدراسات القانونية المقارنة يمكن حصر أنظمة الاثبات في نظامين اساسيين أحدهما يسمي نظام الاثبات المقيد بينما يعرف الآخر بنظام الاثبات الحر.

فنظام الاثبات القانوني أوالمقيد يقوم علي أساس التحديد المسبق لأدلة الاثبات وحجيتها وقيمتها الاقناعية من طرف المشرع ، فيقتصردورالقاضي فيه علي مجرد تطبيق القانون والتأكد من إشتمال الدليل علي ماهو محدد قانونا من شروط  ، فليس بمقدور القاضي فحص تلك الادلة وتقديرها واعمال الاقتناع الشخصي بشأنها ، فلايمكنه بأي حال من الاحوال الاستناد في حكمه علي دليل من خارج ماهو منصوص عليه في القانون ولو توافرفيه من شروط اليقين مايجعله دليلا لايرقى اليه الشك ، قد تبنت هذا الاتجاه القوانين ذات التوجه الانجلوسكسوني.

هذا ويعد من أكثر المآخذ علي نظام الاثبات القانوني مايفرضه من قيود تشل حرية القاضي وتمنعه من التعاطي مع ماهو معروض عليه من أدلة وتجعل دوره في الاثبات

في منتهي السلبية فيفقد سلطته في الحكم بمايتفق وواقع القضية المعروضة عليه ويدفع به الي الحكم في غالب الاحيان بما يتعارض وماتولد لديه من قناعة جراء ما استخلصه من أدلة لايعترف بها نظام الاثبات المقيد .

ونظرا لما بات يفرضه العصر الحديث من ضرورة منح القاضي حرية واسعة في تكوين عقيدته من خلال ماهو معروض عليه من أدلة ووقائع ، فقد بدأ نظام الاثيات المقيد في التراجع شيئا فشيئا ، ففي المملكة المتحدة التي تعتبر مهد هذا النظام ظهر مايسمي بقاعدة الادانة بأدني شك والتي من خلالها يمكن للقاضي ان يكون عقيدته من أي دليل متي كان قطعي الدلالة ، وإن لم يكن من ضمن الادلة المنصوصة.

أما نظام الاثبات الحر فيقوم علي أساس اطلاق ادلة الاثبات ممايمنح القاضي حرية واسعة في تكوين عقيدته من خلال البحث والتعقيق فيما هو مقدم اليه من ادلة وقبول

بعضها دون الآخرمن غير أن يكون ملزما بتقديم مايبرر سر قناعته تلك.

فحرية القاضي في تكوين قناعته وتقدير ماهو معروض عليه من أدلة يعد من أكثر القواعد القانونية إنتشارا ومن أهم مايعتمد عليه الاثبات من مبادئ ، ذلك أن السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي الجنائي في تقييم الأدلة تختلف عنماهو ممنوح للقاضي المدني لكون الأول يسعى الي إثبات وقائع مادية ونفسية في حين أن الثاني يسعى الي إثبات وقائع قانونية .

ومع ذلك يبقي من غير الممكن القول بأن القاضي الجنائي يتمتع بحرية مطلقة ، وإنما في الواقع تخضع تلك الحرية لمجموعة من القيود تفرض علي القاضي أن يؤسس قناعته علي الجزم واليقين لاعلي الظن والترجيح وأن لايقضي بناء علي علمه وأن يتطرق في القرار لمضمون ماتم تقديمه من أدلة ومناقشتها وبيان كيفية التحقق منها ومواقف الاطراف ومآلها دون مجرد الإشارة العابرة اليها في القرار مع المحافظة علي إنسجام مااستند عليه من أدلة وعدم تناقضها .

هذه وقد نص المشرع الموريتاني علي المبدأ العام المتعلق بحرية الاثبات من خلال المادة 386 من قانون الاجراءات الجنائية التي جاء فيها (باستثناء الحالات التي ينص فيها القانون علي خلاف ذلك فإن الجرائم يمكن أن تثبت بجميع الأدلة الشرعية ويحكم القاضي إعتمادا علي إقتناعه الشخصي المعتمد علي البيانات والمثبتات القانونية )

وبما أن هذه المادة قد أقرت المبدأ العام فيما يتعلق بحرية الاثبات تكون جميع الادلة مقبولة للاثبات بمافي ذلك الادلة الرقمية التي يتعين عليها ان تخضع في إجراءات جمعها وضبطها كغيرها من الأدلة الأخري لنفس ماهومنصوص عليه قانونا فتكون طرق التوصل اليها مشروعة وغاية المحقق من ورائها إدانة المتهم من جهة وقبول الدليل من طرف القاضي الجنائي من جهة أخري وأي خرق لتلك الاجراءات أوتزييف للأدلة يترتب عليه حتما عدم قبولها وبطلان ماتم إتخاذه بشأنها من إجراءات كماهو منصوص عليه في المادة 169 من قانون الاجراءات الجنائية التي جاء فيها ( يمكن أن تتعرض إجراءات التحقيق للبطلان إذا لم تراع فيها الشكليات المنصوص عليها في المادتين 101 و104 أو في المقتضيات والنصوص الأخري الأساسية الواردة في هذا الباب وفي حالة خرق حقوق الدفاع ……)

فمن غير الممكن إدانة متهم بناء علي أدلة لم يتم إستخراجها وفق ماهو منصوص عليه قانونا وبالطرق الشرعية فالأدلة الرقمية بالرغم مماتتمتع به من قوة في الإثبات إلا أن ذلك لايخرجها من دائرة الشك فتبقي كغيرها من الأدلة الأخري خاضعة لرقابة القاضي الجنائي من خلال إعماله لمايتمتع به من سلطة تقديرية في تقييم ماهومقدم اليه من أدلة رقمية وهو في ذلك يلعب دورا جوهريا قي تنقية الدليل مما قد يشوبه من أخطاء أوغش فيتحول الدليل الرقمي من حقيقة علمية الي وسيلة إثبات قضائية فعالة ……

هذا ومن الجدير بالذكر أن المشرع الموريتاني حينما تطرق لمبدأ حرية الإثبات في المادة 386 من قانون الاجراءات الجنائية فإنه لم يورده علي سبيل الإطلاق وإنما إستثني من ذلك الحالات التي ينص فيها القانون علي خلاف ذلك وهو تأكيد من المشرع الموريتاني علي إحترام ما أورده في القانون الجنائي من تقسيم للجرائم إعتمد فيه علي ما أرسته الشريعة الاسلامية من قواعد في هذا المجال ، قسمت من خلالها الجرائم تقسيما ثلاثيا ، جرائم قصاص ، وجرائم حدود ، وجرائم تعازير , وبما أن وسائل إثبات جرائم الحدود والقصاص محددة علي سبيل الحصر في الشريعة الإسلامية التي تعد المصدر الوحيد للقانون الجنائي واليها أحال فيما لم يتم النص عليه فيه ، يكون المشرع قد إستبعد تلك الجرائم من إمكانية الإثبات بأية وسيلة خارج ماهو محدد لإثباتها ، تاركا مجال تطبيق مبدأ الاثبات الحر لجرائم التعازيرالتي يمكن إثباتها بكافة الوسائل بما في ما افرزه العصر الحديث من ادلة رقمية.

والله اعلم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى